الأمانة العامة للعتبة الكاظمية المقدسة تحتفي بالمفكر الإسلامي العلامة المحقق السيد أحمد الأشكوري
في حضرة القلم والفكر، وتحت ظلال العرفان للنفوس التي نذرت حياتها لخدمة التراث وناصية العلم، شهدت مكتبة الجوادين العامة، في رحاب الصحن الكاظمي الشريف يوماً مشرقاً من أيام الوفاء، حيث التأم الحرف حول عالمٍ جليل، وباحثٍ مفكر، حمل لواء التحقيق العلمي، سماحة المفكر الإسلامي العلامة المحقق السيد أحمد الحسيني الأشكوري "دامت توفيقاته"، إذ أقامت المكتبة حفلاً تكريمياً مهيباً، برعاية مباركة من الأمين العام للعتبة الكاظمية المقدسة، خادم الإمامين الكاظمين الجوادين، الدكتور حيدر حسن الشمري، وذلك تقديراً لمسيرة علمية امتدت عقوداً من العطاء رفدت المكتبة الإسلامية بفيض من المؤلفات والدراسات والتحقيقات العلمية القيّمة.
جاء هذا التكريم تجسيداً لثقافة الاعتراف بالفضل، وإقرار بما بذله سماحة السيد الأشكوري من جهود علمية وفكرية متواصلة، أثمرت عن تراث غني، شكلت إضافة نوعية في مجالات التحقيق والدراسة، شهدت لها الحوزات العلمية، والمجامع الفكرية في العالم الإسلامي، فقد كان سماحته مثالاً للعالم الموسوعي الذي أحيا النصوص وأعاد إليها نبضها من خلال تحقيق دقيق، وقراءة واعية، ومنهج صارم، متكئاً على إرث علمي أصيل ورؤيةٍ متجذّرة في مدرسة آل البيت "عليهم السلام".
وشهد الحفل حضوراً علمياً وفكرياً وثقافياً بارزاً، ضم نخبة من الشخصيات الدينية والأكاديمية والباحثين من داخل العتبة المقدسة وخارجها، الذين عبّروا عن فخرهم واعتزازهم بهذه المبادرة التي تنبع من روح الوفاء للعلماء الذين خدموا التراث بصدقٍ وإخلاص، وتركوا بصماتهم المضيئة في سجل الثقافة الإسلامية.
استهل الحفل بتلاوة عطرة من الذكر الحكيم شنّف بها أسماع الحاضرين القارئ محمد راهي السريع، تبعتها كلمة إدارة المكتبة وألقاها فضيلة الشيخ عماد الكاظمي بيّن فيها قائلاً: "إن من أسمى مراتب الفضل وأرفع مقامات الخدمة، الاعتناء بالعلم وأهله، والاهتمام بآثار العلماء، ونشر تراثهم في ربوع المجتمع، فبذلك تحفظ الأمم هويتها، وتستنير دروبها، ويترسخ الوعي بين أبنائها، وقد كان العلامة الكبير، السيد الأشكوري "دامت توفيقاته"، مثالاً حياً لهذا النهج المبارك، إذ قضى عقوداً من عمره الشريف في ميادين التعليم والتأليف والفهرسة والتحقيق، وخدمة إحياء تراث أعلام الأمة.
وأضاف فضيلته: لم يكن هذا المسار العظيم بعيداً عن جذور العلاقة العميقة التي جمعته بمؤسس هذه المكتبة المباركة، سماحة السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني "قدس سره"، حيث كان امتداداً أميناً لمشروعه العلمي والحضاري، مستضيئاً بهديه، ومواصلاً مسيرة العطاء التي أسس لها.
وها هو سماحة السيد الأشكوري، في هذا العمر المبارك، حجة قائمة على غيره من أهل العلم والفضل، بما أظهره من جدٍ ومثابرة، وعطاء لا ينضب، ليكون شاهداً ناطقاً بأن طلب العلم والعمل به ونشره، رسالة لا يحدّها زمن، ولا يعوقها تقدم سن، بل تزداد به إشراقًا وتألقاً.
وبهذه المناسبة كانت هناك كلمة تعريفية للباحث المهندس عبد الكريم الدباغ، أوضح فيها جانباً من السيرة الكريمة للعلامة الجليل السيد الأشكوري، مشيراً إلى صلاته العلمية الوثيقة بعدد من كبار علماء الكاظمية المقدسة، وما أثمرته هذه الروابط من أثر علمي عميق امتد أثره إلى حاضرنا.
وقد سلط الأستاذ الدباغ الضوء على الجهود الكبيرة التي بذلها السيد الأشكوري في مجال نشر التراث الإسلامي الأصيل، وأشار إلى أبرز إنجازاته في هذا المضمار وهو العمل الموسوعي الضخم الذي توّجه بتأليف وفهرسة موسوعة علمية رائدة، تضمنت (23) جزءاً من مؤلفات الإمامية، إن هذا الجهد المميز يشكل إضافة علمية كبرى في خدمة التراث الإسلامي، ودليلاً على أهمية التواصل الحي مع ذخائر الفكر، وترجمتها إلى مشاريع بحثية وعلمية تخدم المجتمع والأمة.
وفي كلمة وجدانية استعرض سماحة السيد أحمد الحسيني الأشكوري، محطات من مسيرته العلمية وتجربته البحثية والتحقيقية، متحدثاً عن بعض الأعلام الذين تأثر بهم خلال رحلته الطويلة في طلب العلم، وقد أضاء بشيء من التفصيل عن علاقته العلمية والشخصية الوطيدة بسماحة السيد هبة الدين الشهرستاني "قدس سره"، تلك العلاقة التي شكلت محطة مهمة في مسيرته العلمية.
كما أشار السيد الأشكوري إلى جهوده في إعادة طباعة كتاب السيد الشهرستاني "الهيأة والإسلام"، وما بذله من عناية علمية دقيقة لإخراج هذا الأثر القيّم بحلّة تليق بمكانته العلمية، ولم تقف جهوده عند هذا الحد، بل تأليفه كتابًاً حول شخصية سماحة السيد مهدي الحيدري "قدس سره" بعنوان: "الإمام الثائر"، تناول فيه سيرته ونضاله العلمي والاجتماعي، مساهماً بذلك في توثيق تاريخ أعلام الأمة وإحياء تراثهم.
في الوقت ذاته أسدى سماحته جملة من النصائح القيّمة للباحثين والمحققين، مؤكدًا على أهمية الالتزام بالمنهج العلمي الواضح، والدقة في العمل، والابتعاد عن العجلة في التحقيق، وضرورة بذل الوسع في سبيل إحياء التراث الإسلامي، لما في ذلك من خدمة عظيمة للعلم والدين والمجتمع.
وقد توج الحفل بتقديم درع الأسبوع الجعفري لسماحة السيد أحمد الأشكوري، وإهداء راية الإمامين الكاظمين الجوادين "عليهما السلام" المباركة، تقديراً ووفاءً لعطائه الثرّ الذي لا يزال ينبض بالحياة في بطون الكتب، فضلاً عن إهدائه مجموعة من الكتب المحققة من قبل قسم الشؤون الفكرية والثقافية وقد عبّر سماحته عن بالغ امتنانه لهذه اللفتة الكريمة، مؤكداً أن خدمة التراث مسؤولية مقدسة، وأن إحياءه هو إحياء لهوية الأمة وذاكرتها الحضارية، وهكذا اختُتم الحفل لا بانتهاء فقراته، بل ببداية عهد جديد من الوفاء للعلم وأهله، لتبقى العتبة الكاظمية المقدسة منارة للعرفان، وتكريم القامات العلمية التي صنعت للتاريخ فصولاً من النور والعطاء.